غزا تيمورلنك سورية عام 1400. كان ذلك جزءاً مما عرف بحملة السنوات السبع التي قادها هذا الفاتح الدموي العجوز (ولد عام 1336) ضد كلٍ من المماليك والعثمانيين بعد قضائه على التغلقيين في الهند. وقد شجع تيمورلنك على هذه الحملة وفاة السلطان برقوق المملوكي في مصر، فسار وجيشه اللجب من سمرقند عام 1399 وفتح أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، وقتل أفراد حاميات وأهل المدن التي احتلها كما كانت عادته في غالبية غزواته. ثم سار جنوباً عبر الأناضول واحتل ودمر سيواس وملطية وعين تاب، وفعل الشيء نفسه بحامياتها وأهلها قبل أن يعبر باتجاه شمال سورية. أرسل تيمورلنك رسالة إلى نائب السلطنة في حلب يهدده بالويل والثبور لكي يستسلم ويفتح أبواب المدينة أمام جيشه. فما كان من الأمير المملوكي سوى قطع رؤوس الرسل جواباً وأرسال رسالة عاجلة إلى السلطان فرج بن برقوق في القاهرة يطلب منه التحرك بجيشه للدفاع عن سورية. ولكن السلطان تقاعس ولم يدق النفير العام أو يعبئ الجيش السلطاني، بل اكتفى بأن طلب إلى حاميات المدن السورية التصدي لحملة تيمورلنك.
وصل تيمورلنك إلى حلب بعدما عاث في القرى المحيطة بها في أيلول 1400 وحاصرها. وجرت بينه وبين المماليك الذين أتوا من كل المدن السورية وأهل حلب مناوشات عدة. ولكن المماليك، وبعد يومين من القتال، انسحبوا عندما تيقنوا بأن السلطان لن يأتي من القاهرة وتركوا حلب وأهلها لمصيرهم، الذي كان فعلاً فظيعاً. فقد قتل المغول سكان البلد الذين خرجوا أساساً مع المماليك ثم دخلوا المدينة وأجهزوا على من تبقى منهم، حتى أولئك الذين التجاؤوا إلى الجوامع والخانقاوات والمدارس، واغتصبوا النساء والفتيات والغلمان وقتلوا الأطفال أيضاً بعد أن كانوا قد قضوا على الرجال والفتيان، ثم أولعوا النار في المدينة وقعدوا يقتلون من تبقى حياً من السكان لمدة ثلاثة أيام مروعة. وبنى تيمورلنك برجاً من الرؤوس التي قطعها جنوده، قيل أن عدته عشرين ألف رأس تنظر كلها للخارج، كمن يشهد على الفظائع التي مرت بها قبل اجتزازها ويتوعد من تبقى من السكان حياً بسوء المآل.
بعد مجزرة حلب، فتحت حماة أبوابها لابن تيمور ميران شاه خوفاً من بطش المغول، ولكن اغتيال اثنين من جنده في الليل جعله يعود إلى المدينة ويضع السيف في أهلها ويحرقها بالكامل. وفي كانون الثاني 1401 وصلت جيوش تيمورلنك إلى مشارف دمشق تسبقها أخبار التقتيل والتدمير. وكانت المدينة قد تحصنت وباتت تنتظر وصول السلطان فرج من مصر ليفرّج عنها. ومع أن السلطان والجيش المصري قدموا للدفاع عن دمشق، فإنهم كانوا متنافرين فيما بينهم، كل يتحين الفرص للانقضاض على الآخر. وكان فرج صبياً أهوج يفتقر إلى الحنكة والسياسة وإلى النصحاء الخلص على الرغم من أن بلاطه قد حوى على بعض ألمع مفكري العصر. وكان تيمورلنك الداهية عالماً بالانشقاقات في المعسكر المملوكي وبضعف السلطان وقلة حيلته، فخادعهم بعد ابتداء المناوشات بين الجيشين بأن أظهر التقهقر والاندحار ثم عاود الكرة على دمشق بعدما علم بالانسحاب الاعتباطي للأمراء المماليك يتبعهم السلطان وبطانته خلال الليل تاركين وراءهم عتادهم وأثقالهم.
دافع السكان ومن بقي من المماليك الشامية ومن انضم إليهم من الذين جفلوا من حلب وحماة وغيرها من المدن عن دمشق دفاعاً مستميتاً ولكن من دون قيادة ولادراية بأمور الحرب. وخدعهم تيمور بأن أرسل في طلب الصلح، فأخرجوا إليه واحداً من علمائهم، قاضي القضاة تقي الدين ابراهيم بن مفلح الحنبلي. فتلطف إليه تيمور في الكلام ومدح دمشقاً بلاد الأنبياء والصحابة وقال له إنه سيعتق البلد ولكنه يريد التقدمات (طقزات بالمغولي) التي اعتاد أخذها من المدن المفتوحة صلحاً قبل مغادرته. فخدع ابن مفلح بكلام تيمور المعسول وعاد إلى دمشق وشرع يخذل الناس عن القتال ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناءً عظيماً على عادة ضعاف النفوس من علماء الدين المداهنين للحكام. وتمكن خلال يومين من إقناع أهل البلد بالكف عن القتال وبدفع الطقزات التي يريدها تيمور ومبلغها مليون دينار، وهو رقم هائل تلك الأيام. ولكن المدينة كانت غنية بزراعتها وصناعتها وتجارها، وتمكنت بسرعة من جمع المبلغ الذي حمله ابن مفلح وغيره من وجهاء البلد إلى الأمير تيمور.
لما رأى تيمورلنك المال وتيقن من سهولة جمعه من هذه المدينة الغنية، استشاط غضباً وادعى أن المال بحساب المغول ناقص وأن ما حمل إليه مما تركه المصريون هو له أصلاً. فسلم أهل البلد كل ماكان فيها من أموال وعتاد المصريين. ثم طالبهم تيمور بأموال التجار الذين فروا من البلد وبالدواب التي لديهم وكل آلة السلاح، فسلموها حتى لم يتبق لديهم شيء للدفاع عن أنفسهم أو للهرب. وجروا في ذلك، علي تعبير المقريزي الذي كان شاهد عيان، ”على عادتهم في النميمة بمن عنده من ذلك شيء، حتى أتوا على الجميع“. ولكن جشع تيمور لم يهدأ فقبض على ابن مفلح وأصحابه بعدما كان أمنهم، وألزمهم أن يدلوه على أقسام المدينة وحاراتها وطرقها، فكتبوا ذلك. ثم قسم تيمور المدينة بين أمرائه لكي يستخرج كل منهم مااستطاع من قسمه. فنزلوا المدينة وتفننوا في سوم الناس ألوان العذاب لكي يعطوهم مابقي لديهم. وقد خلف لنا المؤرخون أوصافاً مذهلة لما فعله عسكر تيمورلنك بالدمشقيين بعدما استخلصوا منهم جل مالديهم، نقتبس منها التالي من المقريزي وابن تغري بردي: ”فحينئذ حل بأهل دمشق من البلاء مالا يوصف وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوساً، وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم، كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق؛ فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعاً، فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته أو بنته وهي توطأ، وولده وهو يلاط به، فيصرخ هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط، وكل ذلك من غير تستر في النهار بحضرة الملأ من الناس. ورأى أهل دمشق أنواعاً من العذاب لم يسمع بمثلها؛ منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشد رأسه بحبل ويلوونه حتى يغوص في رأسه ومنهم من كان يضع الحبل بكتفي الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان ومنهم من كان يربط إبهام يدي المعذب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويفر في منخريه الرماد مسحوقاً، فيقر على ما عنده شيئاً بعد شيء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقب ميتاً مخافة أن يتماوت. ومنهم من كان يعلق المعذب بإبهام يديه في سقف الدار ويشعل النار تحته، ويطول تعليقه، فربما يسقط فيها، فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق، ثم يعلقه ثانياً“.
دام هذا العذاب عشرين يوماً، قتل خلالها أعداداً كبيرة من الناس وفرغت المدينة من كل ثرائها. ولكن غل تيمور لم يشف بما فعله، فاستباحها لجيشه لمدة ثلاثة أيام أخر ثم قاد منها جمع غفير من الصناع والأعيان والنساء والغلمان ليعود بهم إلى سمرقند، وطرح النار فيما تبقى من البلد لكي يكمل عليها. أقامت النار ثلاثة أيام كاملة واحترقت غالبية معالم دمشق ومنازلها وصارت مدينة أشباح يدب فيها العجائز والأولاد الصغار ممن تركهم تيمور وراءه لعدم حاجته إليهم. كل ذلك والسلطان فرج وجيشه المملوكي بعيدين في مصر كأنما ماحصل في دمشق لايعنيهم بشيء.
لم يكن الجيش وحده من خذل سكان دمشق وتركهم يواجهون محنتهم وحيدين. بل إن عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء ساروا إلى مخيم تيمورلنك في بداية الأحداث اتقاءً لشره، ومنهم من حصل على مناصب منه ومنهم من اكتفى بالعفو الأميري. ولكن حالة العالم الألمع بينهم، ابن خلدون، تستحق التعليق. فهو قد وجد نفسه في دمشق متروكاً مع غيره من علماء وفقهاء مصر بعد الانسحاب المتسرع للجيش المملوكي الذي رافقوه في حملته. وهو قد طلب بالاسم من قبل تيمور، وتدلى إليه من سور المدينة، وقضى وقتاً في مجلسه يستميله ويسايره بخطابه الذكي والمتفذلك. بل إنه قضى أياماً يختصر له وصف المغرب وطرقها ومدنها ومفازاتها بناءً على طلب تيمورلنك وكتب له في ذلك إثنى عشر كراساً لعل تيمور أرادها كخارطة طريق لغزو المغرب. وقد وصف ابن خلدون لقاءاته المتعددة بتيمور وانصياعه لطلبه بكتابة جغرافيا المغرب وصفاً مسهباً في كتاب سيرته الذاتية المعروف بالتعريف، ولم يجد غضاضة في الاعتراف بما فعله من خيانة لوطنه (بل إنه لايقدم فعلته كذلك) ولو أنه يصف خوفه من الأمير وحاجته إلى مداراته، ولكنه يسهب أيضاً في وصف براعته في الحديث ومطارحته للشؤون التاريخية والجغرافية في مجلس تيمورلنك مما استدعى الثناء عليه من الأمير ومنحه جائزة، عندما كانت دمشق تحترق.
هناك تنافس مدني في سورية المعاصرة بين حلب ودمشق. بعضه صحي وبعضه ضيق الأفق. وقد درج أهل حلب على معايرة أهل دمشق بمحاولتهم مسايرة تيمورلنك وشراء صفحه وفشلهم الذريع بذلك ودفعهم ثمناً باهظاً جراء فشلهم. وهم في ذلك يستعملون أحياناً عبارة قبيحة تدلل على فسق جيش تيمورلنك بنساء دمشق. أما اليوم فقد فقد أهل حلب كل دالة لديهم لمعايرة أهل دمشق على مسايرتهم للسلطان الغاشم وتساوت المدينتان في ذلك تساوياً محرجاً. وصار للمدن السورية الأصغر من درعا إلى حماة وحمص ودير الزور واللاذقية والبوكمال وادلب وجسر الشغور وغيرها الكثير دالات ودالات على المدينتين الرئيسيتين. فهل ستستجيبان للتحدي وترتفعان إلى مستوى عموم سورية في النضال والمقاومة؟